You are currently viewing التحديث الصيني النمط ودول الجنوب

التحديث الصيني النمط ودول الجنوب

بقلم ماجد البرهومي

لقد أدركت الصين باكرا أن مصيرها ومصير دول الجنوب ومنها إفريقيا هو مصير واحد باعتبار أن الجميع ينتمون إلى عالم واحد أصبح بفعل وسائل التواصل الحديثة ووسائل النقل المتطورة قرية صغيرة اقترب فيها الجميع من بعضهم البعض فكريا وثقافيا وحضاريا. وبالتالي أصبح لا مفر للجميع، باستثناء المجرمين والعنصريين ومرتكبي الإبادات الجماعية، من إيجاد صيغة جديدة ملائمة للتعايش والتعاون المثمر في كافة المجالات بين جميع الحضارات والثقافات والشعوب لصنع السلام والتنمية والاستقرار في العالم.

نموذج تنموي ناجح

ومع فشل عالم القطب الواحد الذي برز بعد نهاية الحرب الباردة في صناعة السلام العالمي، ومع توق بلدان الجنوب إلى نظام جديد متعدد الأقطاب وخصوصا البلدان النامية في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، كانت الصين سباقة لتقديم مبادرات تصب في خانة التأسيس لهذا العالم الجديد  الذي يتماشى مع المتغيرات والحاجيات. فكانت هذه المبادرات سباقة لخلق مفاهيم جديدة للسلام العالمي تقوم على التعاون والاحترام المتبادل بين الشعوب وتستفيد فيه الأمم من بعضها البعض وتتعاون وتؤسس لعالم أفضل بعيدا عن التناحر وسفك الدماء.

وقد أكد الرئيس الصيني شي جين بينغ في القمة التاسعة عشرة لمجموعة العشرين على أن الصين ستظل دائمًا جزءا من دول الجنوب وستسير جنبًا إلى جنب مع الدول النامية نحو التحديث والتطوير. ولعل ما يشجع بلدان القارة الإفريقية والجنوب عموما على الثقة في الصين هو الفرق في المعاملة بينها وبين بلدان الغرب الاستعماري، باعتبار أن التعاون مع الغرب كان غالبًا مبنيا على أساس السيطرة السياسية والاقتصادية، بالمقابل يكون التعاون مع الصين موجها نحو الشراكة والتعاون المتبادل بما يخدم مصالح الجميع.

إن “التحديث أو التطوير على الطريقة الصينية” هو مصطلح يُستخدم لوصف النهج الذي تتبعه الصين في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويعكس النموذج الصيني الخاص بالنمو والتنمية. ويتميز هذا النموذج بعدة عناصر أساسية تميزه عن غيره من النماذج الناجحة في العالم وخصوصا في منطقة شرق آسيا.

يعتمد النموذج الصيني الخاص بالتنمية الاقتصادية والإجتماعية بشكل كبير على التخطيط المركزي طويل الأمد، فتضع الحكومة الصينية في هذا الإطار خططًا تنموية استراتيجية، مثل “خطة الخمسة أعوام”، التي تحدد الأهداف الاقتصادية والاجتماعية وتوجه الموارد لتحقيقها. ويشمل النموذج الصيني مزيجًا من السوق الحر والتدخل الحكومي. فبينما تشجع الصين القطاع الخاص على النمو، تبقى الدولة متدخلة بشكل كبير في توجيه الاقتصاد بعدة طرق من بينها ملكية الشركات الكبرى والإشراف على القطاعات الاستراتيجية.

وتولي الصين اهتمامًا كبيرًا للاستثمار في البنية التحتية، مثل الطرقات والجسور والموانئ والسكك الحديدية وتعتبر هذه الاستثمارات ضرورية لدعم النمو الاقتصادي وتحفيز التنمية الإقليمية. وتسعى الصين إلى أن تكون في طليعة الدول المبتكرة في المجال التكنولوجي من خلال استثمارات كبيرة في البحث والتطوير وتركز الدولة في هذا الإطار على تطوير تكنولوجيا متقدمة، مثل الذكاء الاصطناعي، والاتصالات، والتكنولوجيا الحيوية.

وشهدت الصين مجموعة من الإصلاحات التي تهدف إلى تحسين بيئة الأعمال وتعزيز كفاءة السوق وتشمل هذه الإصلاحات تحرير التجارة، وتحسين نظام حقوق الملكية، وتسهيل الإجراءات الإدارية. وتهدف الحكومة الصينية إلى تقليل الفجوة بين المناطق الحضرية والريفية، وبين المناطق الشرقية والغربية وتشمل السياسات تقديم الدعم المالي والتنموي للمناطق الأقل تطورًا.

ويولي النموذج الصيني أهمية كبيرة للاستقرار الاجتماعي والسياسي كشرط أساسي لتحقيق التنمية. وتشدد الحكومة في هذا الإطار على الحفاظ على النظام السياسي والاجتماعي لضمان استمرار النمو. ويجمع النموذج الصيني بين عناصر الاقتصاد الاشتراكي والرأسمالي، فهناك قطاع خاص مزدهر بالتوازي مع بقاء الدولة مهيمنة على بعض القطاعات الأساسية وتقوم بدور رئيسي في توجيه الاقتصاد. وقد بدأت الصين بالتركيز بشكل أكبر على التنمية المستدامة، بما في ذلك حماية البيئة، وتطوير الطاقة المتجددة، والحد من التلوث.

الإلهام من خلال الشراكة

ويعتبر هذا النموذج ملهما للبلدان الإفريقية لتحقيق نهضتها ومواصلة التحديث الخاص بها باعتباره نموذج ناجح ويحظى بإعجاب وتقدير العالم ونابع من قيم ومبادئ كونية وهامة تشترك فيها البلدان الإفريقية وبلدان الجنوب عموما مع جمهورية الصين الشعبية. وللإستفادة من هذه التجربة الملهمة في التحديث فإن البلدان الإفريقية بحاجة إلى تحقيق شراكة حقيقية مع الصين لأنه تصعب واقعيا وعمليا، تحقيق ذلك عن بعد، ودون قدوم الصين إلى عين المكان باستثماراتها وخبرائها لتُفيد في تنمية بلدان القارة، ولتستفيد مما توفره إفريقيا من فرص إستثمارية وثروات طبيعية هامة وموقع استراتيجي استثنائي وسوق هامة للإستهلاك.

وتبدو البلدان الإفريقية بحاجة إلى الصين في تقديم الدعم الإقتصادي والتقني من خلال تقديم تجاربها ومعارفها في مجالات عديدة مثل الزراعة، والطاقة المتجددة، والصناعة، والتكنولوجيا، والتعليم والتبادل الثقافي. كما تبدو بحاجة إلى استثمارات الصين في مشاريع البنية التحتية، مثل بناء الطرق، والسكك الحديدية، والمطارات، ومحطات الطاقة بهدف تحسين جودة الحياة في القارة السمراء.

كما تبدو البلدان الإفريقية بحاجة إلى الجانب الصيني في الإبتكار وتطوير التكنولوجيا في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والطاقة المتجددة، والتكنولوجيا النووية، وذلك بهدف تعزيز التقدم التكنولوجي وتحسين جودة الحياة. وهي بحاجة أيضا إلى تبادل المعرفة من خلال برامج التعاون البحثي والتطويري الذي يتضمن تبادل الخبرات في مجالات مثل الطاقة المتجددة، والزراعة، والصناعة الذكية.

وتحتاج إفريقيا إلى الاستثمارات المباشرة الصينية التي تقوم بها شركات الابتكار والتكنولوجيا وذلك لتعزيز قدرتها التنافسية وتطوير قطاعاتها الصناعية والتكنولوجية. وترغب شعوبها في الإستفادة من المنح الدراسية وبرامج التدريب للطلاب والمهنيين في مجالات العلوم والتكنولوجيا، مما يساهم في بناء قدرات العمالة المهنية والعلمية في هذه الدول الإفريقية.

كما تطمح البلدان الإفريقية في إطار الإستفادة من النموذج الصيني الملهم إلى تعزيز الشراكات بين الجامعات والمؤسسات الأكاديمية والصناعية، وذلك من خلال تبادل البحوث والتقنيات وتطوير مشاريع مشتركة في مجالات متعددة. كما تسعى للإستفادة من دعم الصين في تشييد البنية التحتية الرقمية، مثل شبكات الاتصالات والإنترنت السريع، لتعزيز الوصول إلى المعرفة والمعلومات وتعزيز الابتكار.

كما ترغب إفريقيا في الإستفادة أكثر من المشاريع المنفذة ضمن مبادرة الحزام والطريق على غرار إنشاء موانئ، وبناء خطوط السكك الحديدية، وتمويل مشاريع البنية التحتية في مختلف القطاعات مثل الطاقة والاتصالات والتعليم. فمنذ إطلاقها، حصلت مبادرة الحزام والطريق على اهتمام دولي واسع، وتم في إطارها استثمار مبالغ كبيرة في تنفيذ المشاريع المختلفة ومن شأن هذه المشاريع أن تدعم استفادة البلدان الإفريقية من التحديث الملهم على الطريقة الصينية.

باختصار فإن تجربة التحديث الصينية الملهمة تكون أكثر فعالية في تطوير إفريقيا إذا ألقت الصين بكل ثقلها في القارة لتنفع وتنتفع. وباللتالي فالصين شريكً فاعل لإفريقيا يحظى بالثقة باعتباره يسعى لتحقيق الهدف النبيل المتمثل في بناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية القائم على الإحترام المتبادل وعلى التفاهم والتعاون بين مختلف الثقافات.

تفاعل إيجابي

وقد تفاعل التونسيون إيجابيا مع مختلف المبادرات الصينية لاعتبارات عديدة لعل من بينها أن الأمة التونسية على غرار الأمة الصينية عرفت الإنفتاح على العالم الخارجي بصورة مبكرة فكان لها رحالتها منذ آلاف السنين وأشهرهم على الإطلاق حنون القرطاجي الذي ربط صلات الوصل مع الأفارقة من سكان جنوب الصحراء وأسس المرافئ التجارية شأنه شأن حميلقون القرطاجي الذي ربط صلات الوصل مع أوروبا الأطلسية والشمالية ومهد الطريق لتجارة القصدير ووصل إلى أيسلندا منذ آلاف السنين.

إن الفرق بين المبادرات الصينية ومنها الحزام والطريق وبعض الآليات الأخرى التي أرستها ودعت إليها بعض الأقطاب الكبرى في هذا العالم، هو أن هذه المبادرة الصينية تعتمد على التنمية الاقتصادية بدلا من الإستعمار غير المباشر والهيمنة والعنف لتغيير العالم. كما أن الصين لا ترغب في فرض ثقافتها على العالم ولا تؤسس لصراع الحضارات، مثلما يفعل البعض، بل تحترم ثقافة الآخر وتقبل به كما هو، وتسعى إلى التعاون معه دون قيود أو شروط مسبقة.

لقد وقعت تونس مع الصين مذكرة تفاهم بشأن مبادرة الحزام والطريق سنة 2018  وقد تم الإنتهاء في هذا الإطار من بعض مشاريع البنى التحتية الكبرى على غرار المستشفى الجامعي بصفاقس الذي تم تدشينه سنة 2020، كما تم تحديث قناة مجردة الوطن القبلي لضمان إيصال مياه الري الفلاحي إلى شرق البلاد. وتعتبر الأكاديمية الديبلوماسية أيضا من أهم مشاريع التعاون بين الجانبين التونسي والصيني وذلك  بالإضافة إلى المركز الشبابي والرياضي ببن عروس الذي أصبح متنفسا هاما لشباب الولاية منذ إتمام إنشائه في السنوات الأخيرة.

وهناك مشاريع بصدد الإنجاز من بينها جسر بنزرت الجديد الذي بدأ الطرف الصيني بعد في إنجازه، وقريبا قد يشهد مشروع إعادة بناء الملعب الأولمبي بالمنزه النور ليعيد الصينيون الحياة إلى هذا الصرح التونسي العريق في الرياضة. ومن المؤكد أن هناك مشاريع عديدة في المستقبل سيتم الاتفاق عليها لتؤكد أهمية التحديث الصيني النموذج لدول الجنوب وأهمية التعاون مع الطرف الصيني في المجال التنموي.

ماجد البرهومي

رئيس المركز المغاربي للبحوث والدراسات والتوثيق من تونس