الصين وسياسة الشراكة مع دول العالم في مواجهة سياسة النفوذ الأمريكية
وفاء العرفاوي
تتراكم الأسباب التي تزيد من حدة الصدام التقليدي بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين سواء على الصعيد الإقتصادي التجاري والسياسي، وذلك باعتبارهما قوتان اقتصاديتان تتنافسان منذ عقود على زعامة العالم ، وتعملان على لعب دور الوسيط والحليف الموثوق على الصعيد السياسي الدولي في علاقة بقضايا العالم الحارقة. ونظرا لتضارب سياسات الدولتين واختلاف تحالفاتهما في مواجهة المتغيرات الدولية المتسارعة ، بات الغرب عامة وعلى رأسه أمريكا يحارب بشكل غير مباشر التنين الصيني خشية نفوذه المتنامي في مناطق التوتر ودوره المتزايد في قضايا حيوية وهامة تؤرق دول العالم.
يعتبر الخلاف التجاري الاقتصادي بين الصين وأمريكا أساس الصدام بين البلدين، فالثورة الاقتصادية التي تحقّقها الصين منذ عقود تضع الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلفها الغرب على أهبة الاستعداد لمحاربة أية تقدّم تحققه بكين في مختلف المجالات. وتظهر السياسات والمواقف المتضاربة بين البلدين في عدّة مجالات وأيضا في قارات مختلفة بدءا بالشرق الأوسط مرورا بإفريقيا وصولا إلى المنطقة الآسيوية وأوروبا .
فعلى سبيل المثال تتعارض سياسات الصين وأمريكا في عدة ملفات حيوية في الشرق الأوسط وآخرها حرب غزة الدائرة منذ أكتوبر المنقضي، حيث اعتبرت بكين مايحدث في قطاع غزة “وصمة عار” على جبين المجتمع الدولي متمسكة بموقفها الداعي لوقف إطلاق النار، في موقف يكرس سياسة الصين المعتدلة والمنفتحة تجاه حلّ قضايا الشرق الأوسط وتأسيس مقاربة تشاركية مع الدول العربية في العقود الأخيرة . ولطالما تمسّكت الصين بموقف ثابت في إدانة الاحتلال الإسرائيلي والدعوة الدائمة لحل الدولتين وفقا للقرارات الدولية.ومع تزايد حدة الحرب في غزّة ، جاءت دعوة الصين إلى عقد مؤتمر دولي للسلام بشأن القضية الفلسطينية وصياغة خريطة طريق لتنفيذ حل الدولتين وفقا للقانون الدولي، لتزيد من تكريس سياسة التوازن التي تلعبها بكين في المنطقة. وتأتي سياسة الصين المتوازنة في الشرق الأوسط في وقت تدعم الولايات المتحدة الأمريكية حليفتها المدللة إسرائيل وتسعى لتوسيع نفوذها عسكريا في المنطقة خدمة لمصالحها باعتماد سياسة الحماية مقابل الدفع التي شهدت نسقا تصاعديا خلال فترة حكم الرئيس السابق دونالد ترامب.
سياسة متزنة
وتتخذ بكين سياسة النأي بالنفس عن الصراعات والحروب المتجذرة في المنطقة وتُخير إتباع سياسة الموقف المعتدل لخفض التوترات وتقريب وجهات النظر بين الفرقاء. فعلى سبيل المثال لعبت الصين أيضا دورا حاسما في تحقيق التوازن بين دول الخليج وإيران وبين القوى الإقليمية الرئيسية والاحتلال الإسرائيلي. وكانت القمة العربية الصينية التي انعقدت قبل عام في الرياض ، وتمخض عنها عودة العلاقات بين طهران والرياض برعاية صينية ، حدثا بارزا وهاما في سياق تعزيز العلاقات العربية الخليجية الصينية . وتخشى الولايات المتحدة الأمريكية من حصول شراكة بين الطرفين لم يمثلانه من قوى وازنة على الصعيد الإقتصادي العالمي ، إذ تمثل المملكة العربية السعودية عنصر قوة للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة وتعني خسارتها لصالح الصين ضربة قوية لنفوذ واشنطن في الشرق الأوسط.
ووفق المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم فقد سجل التبادل التجاري بين الطرفين ارتفاعا من 36.7 مليار دولار في 2004 عند تدشين منتدى التعاون الصيني العربي إلى 330 مليار دولار في العام 2021. هذا الرقم يؤكد وفق مراقبين أنّ الصين تحتل المرتبة الأولى في ترتيب الشركاء الاقتصاديين للدول العربية متفوقة في ذلك على الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا أيضا .
ورغم هذا التفوق الصيني في التبادل التجاري مع المنطقة العربية على حساب الدول الغربية ، يسعى التنين الصيني إلى مزيد تعزيز شراكته الإستراتيجية مع العرب وهي خطوة قد تتطوّر إلى تحالفات سياسيّة في ظلّ الخلافات القائمة بين دول الخليج السعودية بالأساس والولايات المتحدة الأمريكية . إذ فجرت الحرب الروسية الأوكرانية أزمة طاقة دولية زادت من الخلافات بين السعودية وأمريكا بعد رفض الأولى التماشي مع مطالب الإدارة البيضاوية بالتخفيض في أسعار النفط وهو ما رفضته المملكة، باعتبار أن الغرب يرى السعودية كبديل رئيسي عن النفط الروسي في وقت يشهد فيه العالم أزمة غذاء وطاقة .
أما في أوروبا وعلى صعيد الصدام بين الغرب وعلى رأسهم أمريكا من جهة والصين من جهة أخرى ، فقد زاد الموقف الصيني الداعم لروسيا في حربها ضد أوكرانيا في تكريس الخلاف بين البلدين خاصة بعد إعلان بكين مبادرة سلام لحل الأزمة بين موسكو وكييف ، وهو ما قابله ترحيب أوروبي وتشكيك وتحذير أمريكي.
وأعلن وزير الخارجية الصيني “وانغ يي” انذاك أن بكين مستعدة لتقديم اقتراحها للسلام بشأن أوكرانيا، في إعلان هو الأول من نوعه من قبل الصين منذ اشتعال الأزمة الروسية الأوكرانية.ولاقت دعوة الصين لقيادة جهود السلام بين روسيا وأوكرانيا موقفا أمريكيا أوروبيا غاضبا خشية امتداد وتزايد نفوذ التنين الصين في المنطقة، خصوصا في ظلّ التقارب بين بكين وموسكو .
إذ يمثل التحالف الوثيق بين الجانبين الروسي والصيني معضلة حقيقية للولايات المتحدة الأمريكية والغرب . وزاد الموقف الصيني الداعم لروسيا في حربها ضد أوكرانيا في تكريس الخلاف بينهما ، إذ اعتبر مراقبون موقف بكين من الحرب يتنزل في إطار إبراز سياستها المتزنة إذ دعت في مبادرتها جميع الأطراف إلى التحلي بالعقلانية وضبط النفس، وتجنّب تأجيج النيران ومفاقمة التوترات، معتبرة أن الصراع والحرب لا يفيدان أحداً. كما تعتبر الصين أن الحوار والتفاوض هما الحلّ الوحيد القابل للتطبيق في الأزمة الأوكرانية، مشددة على وجوب تشجيع ودعم كلّ الجهود التي تُفضي إلى تسوية سلمية للأزمة. كما تؤكد بكين وجوب تشجيع ودعم كلّ التدابير التي تؤدي إلى التخفيف من وطأة الأزمة الإنسانية، مع عدم تسييس القضايا الإنسانية، داعية إلى تأمين سلامة المدنيين بشكل فعّال، وإنشاء ممرات إنسانية لإجلائهم من مناطق النزاعات.وشدّدت الصين على ضرورة التزام أطراف النزاع بشكل صارم بالقانون الدولي، وتجنّب مهاجمة المدنيين أو المنشآت المدنية، واحترام الحقوق الأساسية لأسرى الحرب.
افريقيا والصين .. تقارب وشراكة
وتعطي الصين كافة الملفات الدولية أهمية بالغة في سياق عملها على تنويع شراكاتها الاقتصادية والسياسية في العالم ، إذ تعمل الدبلوماسية الصينية على تركيز استراتيجيات متجددة في إفريقيا تراعي مساعيها لأخذ موقع في القارة السمراء باستخدام برنامج ”طرق الحرير الجديدة”. إذ باتت الصين لاعبا أساسيا في السياسات الإفريقية ما يسترعي الانتباه لمدى قدرة بكين في السنوات القليلة الماضية على إزاحة النفوذ الغربي الأمريكية من القارة السمراء.
ويرى مراقبون أن الصراع القديم المتجدد بين أمريكا وروسيا والصين حول إفريقيا ، كان دافعا لظهور حرب نفوذ جديدة قديمة بين هذا الأطراف بعد أن انضافت إليهم حليفة أمريكا المدللة “اسرئيل”. إلاّ أن متابعين يرون أن اعتماد الصين سياسة ذكية تتمثل في تحالفات قائمة على شراكات اقتصادية متبادلة تجعل من نجاحها في دفع النفوذ الأمريكي الغربي إلى الخلف ، خصوصا وأنّ أمريكا تعتمد في سياستها في القارة الإفريقية على مبدأ التبعية في كافة المجالات . وفي السنوات الأخيرة انتفضت الدول الإفريقية ضد التبعية الغربية ، داعية إلى تبديل سياسة النفوذ الغربية على أراضيها إلى سياسات تشاركية تنتفع منها القارة الإفريقية . مايجعل الحديث عن شراكة افريقية صينية أقرب من التحالف مع الغرب وأمريكا في ظلّ خلافات عميقة سياسيا وأمنيا في المنطقة .