إذا سألت تونسيا ملما بدقائق الأمور عن باردو يجيبك فورا بأنها مقصد السلاطين والملوك في الزمن الماضي للراحة والاستجمام أو لإدارة شؤون الحكم بعيدا عن الصخب والضوضاء، أو أنها موطن القصور الفخمة والبساتين والحدائق الغناء التي كانت تفوح عطرا ولم يعد لها اليوم أي أثر. كما يمكن للمجيب أن يرى فيها أرض الحنايا أي قناة مياه قرطاج التاريخية التي تمر عبرها لكنها ارتبطت بها في المخيال الشعبي أكثر من قرطاج نفسها التي شيدت الحنايا في الأزمنة الغابرة لإيصال المياه إليها.
وقد يجيبك أحدهم أيضا بأنها مقر مجلس النواب التونسي والمكان الذي شهد في السنوات الأخيرة الكثير من الاعتصامات والاحتجاجات على الأوضاع السياسية القائمة، وكذلك الكثير من الصراعات بين النواب. كما أن باردو في أذهان الكثير من الشباب وحتى كبار السن هي معقل «البقلاوة» وهي كنية نادي الملعب التونسي أو النادي الملكي التونسي الذي تأسس فيها وارتبط بها حتى أصبح لاعبوه في مختلف الرياضات ينعتون بأبناء باردو حتى وإن لم يكونوا من أصيلي المنطقة.
الضاحية المدينة
باردو ملاصقة لمدينة تونس العاصمة، وتنتمي إداريا لولايتها، وبفعل التمدد العمراني أصبحت ضاحية من ضواحيها تماما مثل مدن كثيرة أخرى ابتلعتها تونس بما في ذلك مدينة قرطاج التاريخية. ويحد مدينة باردو من الشمال حي التحرير وحي التضامن وهي أحياء تابعة لولايتي تونس وأريانة، ومن الشرق مدينة تونس العتيقة من جهة باب سعدون الذي يفتح على باردو، ومن الجنوب حي الزهور والملاسين، ومن الغرب ولاية منوبة.
وتضم باردو مقر مجلس النواب الحالي، وكانت قبل الثورة تضم أيضا مقر مجلس المستشارين والمجلس الدستوري اللذين تم حلهما ولم يعد لهما أي أثر مع انتهاء العمل بدستور سنة 1959 بعد ثورة 14 كانون الثاني/يناير 2011. ومن المتوقع أن تضم باردو مستقبلا مقر مجلس الجهات والأقاليم، وهو الغرفة الثانية للبرلمان المستحدثة بالدستور الجديد لسنة 2022 وكذلك مقر المحكمة الدستورية العليا التي لم تتشكل بعد والتي من المتوقع أن تتخذ من مقر المجلس الدستوري السابق مقرا جديدا لها.
وكانت باردو خلال فترة حكم العائلتين المرادية والحسينية أي خلال القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر وفترة هامة من القرن العشرين، في أغلب الأوقات، مقر الحكم والإقامة لملوك تونس. كما كانت في العهدين الحفصي والعثماني خلال القرن السادس عشر والقرن الذي سبقه مكانا للراحة والاستجمام للأسر الحاكمة حيث كانت تنتشر حول قصورها الحدائق الغناء التي التهمها الآن التوسع العمراني الذي أوجد أحياء سكنية أحاطت بقصور باردو عوض المساحات الخضراء التي كانت سائدة في الماضي.
مدريد التونسية
ويؤكد البعض على أن تسمية باردو أطلقها البناؤون الإسبان الذين شيدوا القصر الرئيسي في عهد ملوك بني حفص (الدولة الحفصية) وذلك نظرا للتشابه بين قصور وحدائق بلدة صغيرة قريبة من العاصمة الاسبانيّة مدريد تسمّى «El Pardo» وبين قصور وحدائق باردو. وفي كل الحالات فإن الأكيد أن التسمية إسبانية بالنظر إلى العلاقات الوطيدة التي جمعت الحفصيين الشمال أفريقيين بالإسبان باعتبار وأن أمهات بعض سلاطين هذه العائلات هن إسبانيات وذلك بالرغم من نصرة هذه الأسرة الحاكمة لتونس للأندلسيين المطرودين من إسبانيا في ذلك العصر. وللإشارة فإن القصر الملكي الرئيسي في باردو بات اليوم مقر مجلس النواب بعد أن تمت توسعته من خلال إضافة مبنى جديد له على النمط المعماري نفسه يضم بالأساس قاعة الجلسات الكبرى التي تعلوها القبة وتتميز بفخامتها. وتعتبر قصور باردو التاريخية من أقدم قصور الحكم في العالم ويفتخر التونسيون من خلالها بعراقة دولتهم وبمؤسساتها الراسخة التي تحول دون انهيار الدولة في أحلك فترات تاريخها.
كما تحول جزء هام من القصر الملكي الرئيسي في باردو إلى متحف شهير عالميا، هو متحف باردو، الذي يضم أشهر وأهم اللوحات الفسيفسائية وأكثرها عددا والذي شهد منذ سنوات أحداثا إرهابية اهتز لها العالم بعد سقوط ضحايا من السياح الأبرياء من جنسيات مختلفة. وقد تم إغلاق هذا المتحف بالتوازي مع حل البرلمان وإغلاق مقره يوم 25 تموز/يوليو 2021 وهناك أمل في أن يفتح أبوابه من جديد للزوار التونسيين والأجانب مع عودة الحياة البرلمانية بانتخاب مجلس النواب الجديد.
فكر تنويري
ومن بين القصور التي تضمها باردو، قصر السعيد وهو القصر الذي شهد حصار الجيوش الفرنسية القادمة من الجزائر بقيادة الجنرال بريار، لملك البلاد محمد الصادق يوم 12 أيار/مايو 1881 لإجباره على التوقيع على معاهدة الاستعمار التي أطلقت عليها فرنسا تسمية معاهدة الحماية. ومنذ ذلك اليوم أطلقت على هذه المعاهدة تسمية معاهدة باردو والتي بموجبها أصبحت تونس دولة منقوصة السيادة يحكمها ملك يخضع لرقابة مقيم عام فرنسي، وذلك خلافا للجزائر التي كانت مقاطعة فرنسية بالكامل ضمتها باريس بالكامل ولم تبق فيها على أي سلطة محلية.
كما كانت باردو مقرا للمدرسة الحربية التي أسسها الملك المشير أحمد باي في بدايات القرن التاسع عشر ضمن برنامجه الإصلاحي وتخرج من هذه المدرسة التي سميت أيضا مكتب المهندسين ومكتب العلوم الحربية عديد الأعلام الذين كان لهم شأن في الدولة التونسية. فمدرسة باردو هي أول مدرسة عصرية في تونس تخرج منها الضباط والمهندسون والموظفون والمصلحون من أمثال خير الدين التونسي والجنرال حسين والجنرال رستم وغيرهم، ممن نهلوا من أساتذة إيطاليين وبريطانيين وفرنسيين، قاموا بتدريس المواد العصرية من رياضيات ومدفعية وتاريخ وجغرافيا ولغات أجنبية. فقد كانت هذه المدرسة طريق تونس القرن التاسع عشر نحو الحداثة من خلال تقديمها لتعليم مختلف عما كانت تقدمه أقدم جامعات العالم على الإطلاق، أي جامعة الزيتونة التي أشعت على تونس لقرون وتخرج منها كبار المفكرين على غرار العلامة ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع.
لقد كان التعليم الزيتوني في بداية القرن التاسع عشر بحاجة إلى إصلاح وتطوير لمواكبة العصر، لكن الملك أحمد باي خير تأسيس مؤسسة جامعة جديدة عوض إصلاح التعليم الزيتوني فكانت مدرسة باردو التي أسس خريجها خير الدين التونسي المدرسة الصادقية التي تخرج منها في بدايات القرن العشرين الزعيم الحبيب بورقيبة الذي قام بعد الاستقلال بتطوير التعليم في جامعة الزيتونة. فالأمر يتعلق بحلقة مترابطة، وبحركة إصلاحية جذورها ممتدة في أعماق التاريخ، وبمدارس وجامعات عريقة عراقة هذا الوطن الذي أشع حضارة وعلما وثقافة وفكرا على بلدان منطقته.
معالم صامدة
ومن معالم باردو الصامدة بوجه الزمن مسجد الباي الذي كان مخصصا لصلاة العائلة الملكية والحاشية والذي يغنيهم عن التنقل إلى جامع الزيتونة المعمور بقلب المدينة العتيقة والذي يقتصر ذهاب الملك إليه على الأعياد الدينية فحسب. ويقع المسجد في نفس المركب الذي يقع به القصر الملكي، أي مجلس النواب الحالي، وكذلك متحف باردو وأصبح اليوم مقصدا لنواب المجلس وموظفيه ولكل من يرغب في الصلاة به من سكان باردو أو من زوار المتحف أو غيرهم.
ومن معالم باردو، جزء من قناة مياه قرطاج أو ما يسمى «الحنايا» وهو بناء كان يعد من عجائب الدنيا قبل أن يقع العبث به عبر التاريخ واقتلاع حجارته واستغلالها في تشييد مبان أخرى سواء في تونس أو في الأندلس التي اشترى تجارها الحجارة المصقولة لاستغلالها في تشييد القصور. ويتعلق الأمر بالقناة التي كانت تجلب المياه لمدينة قرطاج من مدينة زغوان البعيدة وتحديدا من معبد مياهها وهي قناة عجيبة وهندستها غريبة وكان أول من هدمها القائد الأموي حسان بن النعمان بعد سقوط مدينة قرطاج بيد الدولة الأموية.
وللإشارة فإن المستعمر الفرنسي قام بتهديم الكثير من معالم باردو ومن ذلك سورها، فقد تحدث المؤرخ التونسي حسن حسني عبد الوهاب بما مفاده أنه عند تهديم السور كانت تحيط به ثمانية أبراج يوجد بها نحو مئة مدفع من النّحاس والحديد. كما أن هناك قصورا وإقامات تعود إلى العائلة الملكية أو الحاشية لم تلق العناية اللازمة فتقادمت وتم هدمها وبناء أحياء جديدة لسكان المدينة من الوافدين من أماكن متفرقة من جهات المملكة التونسية في ذلك الوقت، فتغير بذلك المشهد تماما في مدينة باردو.
ثقل سياسي
وتعتبر باردو اليوم ضاحية هامة من ضواحي العاصمة ذات ثقل سياسي باعتبارها مستقر المشرعين والسلطة التشريعية وفيها مقرات المجالس وهي انتخابيا ضمن دائرة تونس 2 التي تضم أيضا قرطاج حيث رأس السلطة ومقر رئاسة الجمهورية. وقد جعل ذلك باردو مسرحا لأحداث سياسية عديدة على غرار ما كان عليه الحال منذ القرن الخامس عشر حيث حكمت فيها السلالات الملكية وفيها أنهى الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة ورفاقه في المجلس القومي التأسيسي الحقبة الملكية وأعلنوا تونس جمهورية سنة 1957.
وتعرف باردو بمعهدها الثانوي العريق وهو معهد خزندار بباردو الذي تخرج منه عديد المشاهير في مختلف الميادين وأشعوا داخل تونس وخارجها ومن ذلك أحد من تقلدوا المنصب الأرفع في البلاد أي رئاسة الجمهورية وكذلك أحد رؤساء الحكومات. كما تعرف باردو بناديها الرياضي العريق الملعب التونسي صاحب بطولات محلية وكأسين عربيتين وساهم في تطعيم المنتخب التونسي بعديد النجوم ويسمى أيضا النادي الملكي لأنه يحسب على العائلة الملكية السابقة وأيضا البقلاوة باعتبار وأن الأميرة زكية ابنة آخر ملوك تونس محمد الأمين كانت توزع حلويات البقلاوة كلما انتصر الملعب التونسي الذي ترأسه زوجها وزير الصحة الأسبق المرحوم الدكتور محمد بن سالم.
ولهذا النادي فرع لكرة السلة في صنف الفتيات سيطر في وقت ما على كرة السلة التونسية والعربية والأفريقية وهيمنت لاعباته على المنتخب التونسي لكرة السلة في صنف الفتيات. كما تخرج من فرع الملاكمة لهذا النادي العريق الذي يعتبر امتدادا لجمعية الشباب المسلم التي أسسها المرحوم محمد الصالح النيفر خلال الحقلة الاستعمارية للحفاظ على هوية البلد خشية من ذوبانها في الثقافة الفرنسية، أبطال عالميون وقاريون رفعوا راية تونس عاليا في المحافل الدولية.
معمار أصيل
وبقدر الحزن على البساتين والحدائق الغناء التي اختفت من باردو بسبب التوسع العمراني، إلا أن الحالة الجيدة لما بقي من القصور يمكن أن يثلج الصدر باعتبار أن الأمر يتعلق بتحف معمارية بكل ما للكلمة من معنى بنيت على الطراز التونسي الأصيل. فالكثير من زوار متحف باردو يؤكدون على أن روعة بناء بعض قاعات العرض التي تعود إلى الزمن الملكي تنسيهم في الآثار التي يتضمنها المتحف رغم أهميتها وندرتها باعتبارها تعود إلى مختلف الحقب من تاريخ تونس.
وكانت صحيفة «كورييري ديلا سييرا» الإيطالية قد اختارت في استفتاء حصل في وقت سابق، متحف باردو كواحد من بين أفضل 10 متاحف ثقافية وتاريخية في العالم وذلك بالنظر إلى تنوع وثراء محتواه. وحثت الصحيفة قراءها على زيارة هذا المتحف التونسي الذي سماه القدماء «دار العجايب» أي منزل العجائب وذلك لأن جدرانه وغرفه هي في ذاتها متحف عجيب وذلك على غرار أغلب القصور والإقامات الملكية في باردو.
وتوجد في باردو اليوم كل وسائل النقل العمومي فهي مرتبطة بشبكة حافلات شركة نقل تونس ويمر بها الخط رقم 4 للمترو الخفيف الرابط وسط العاصمة والمركب الجامعي بمنوبة، ويعبرها أيضا القطار الذي ينطلق من محطة القطارات بساحة برشلونة بقلب العاصمة باتجاه مدينة بنزرت، وسيمر منها قريبا القطار السريع للأحواز ويتوقف صاغرا بمحطتها مثل كل وسائل النقل العمومي الأخرى. فباردو باختصار هي شريان حيوي بولايات تونس الكبرى وتقع في منطقة حيوية تجعلها منطقة عبور باستمرار وتقطنها على العموم ساكنة ترتفع في صفوفها نسب التمدرس والوعي.
نقلا عن صحيفة ” القدس العربي ” اللندنية