You are currently viewing طرابلس لبنان: لؤلؤة المتوسط وسحر الشرق القديم

طرابلس لبنان: لؤلؤة المتوسط وسحر الشرق القديم

طرابلس الفيحاء، العاصمة الثانية للبنان، تلك المدينة الساحرة الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، وتبعد 85 كيلومترا إلى الشمال من بيروت، وتمتد عروقها في التاريخ وتروي أحياؤها وآثارها المعمارية المتنوعة، حكاية مدينة فينيقية تعود إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام، وتعاقبت عليها حضارات عديدة من الفينيقيين مروراً بالرومان، والبيزنطيين، والعرب، والفرنجة، والمماليك، والعثمانيين. فهي تضم اليوم أكثر من 160 معلما تاريخيا وفيها العديد من الخانات والمساجد والمدارس والأسواق وغيرها، لا تزال قائمة حتى اليوم وتضج بالحياة رغم تعاقب السنين وتغير الوجوه الحضارية التي مرت بها. ويؤكد المؤرخون انها تعد المدينة الأولى بمعالمها الأثرية على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وهي الثانية بآثارها المملوكية بعد القاهرة.

كنز حضاري

في القرن الرابع قبل الميلاد، أطلق اليونانيون عليها اسم “تريبوليس – Tripolis” أي المدينة المثلثة. وظلت تحمل هذا الاسم لعقود طويلة حتى دخلها العرب في القرن السابع الميلادي أطلق عليها اسم “إمارة طرابلس”. كما أطلقوا عليها اسم الفيحاء نظرا لانتشار بساتين الليمون المزهرة في أحيائها. أما الصليبيون فأطلقوا عليها اسم “تربيل” وتشير المصادر التاريخية إلى انها لقبت بالمدينة المقدسة في النصف الأول من القرن الثاني الميلادي. يشار إلى ان عاصمة ليبيا أيضا تحمل الاسم نفسه لذلك يطلق عليها طرابلس الشرق لتمييزها عن طرابلس الغرب عاصمة ليبيا.

زيارة طرابلس ومعالمها الأثرية هي بمثابة عودة إلى الزمن القديم بأقاصيصه النادرة. هنا ترفرف طيور الماضي فوق المباني العتيقة، فوق القرميد الأحمر الذي يميز بعض مبانيها القديمة، هنا للوطن طعم آخر، ولسحر الشرق معان أخرى. هي رائحة الليمون التي لا تزال تنبعث من مساحات واسعة بالرغم من احتلال المباني الاسمنتية والتي غيرت الكثير من المعالم.

في العهد الصليبي أصبحت عاصمة كونتية طرابلس وترك فيها الصليبيون صرحا أثريا ضخما هو القلعة التي تشرف من تلة “ابي سمراء” على أحياء المدينة وظلت صامدة رغم تعاقب السنين، وتعد من أجمل القلاع الأثرية على المتوسط. عُرِفَت باسم قلعة “سان جيل” أو “صنجيل” نسبةً إلى الكونت الصليبي ريمون دي سان جيل، بناها الصّليبّيون في أوائل القرن الثاني عشر خلال حصار المدينة، واتّخذوها مركزًا لحملاتهم العسكرية. وتُوفّي فيها الكونت الفرنسي ريمون دي سان جيل عام 1105. أحرقها وأعاد بناءها الأمير أسندمير كورجي، حاكم المدينة آنذاك، كما رُمِّمَت عام 1521 في عهد السّلطان سليمان القانوني. ويبلغ طول القلعة من مدخلها الشّمالي إلى أقصى طرفها الجنوبي 136 مترًا. ويبلغ ارتفاع أسوارها بين 5 أمتار و19 مترا.

وفي العهد المملوكي عام 1289 أعطى المنصور قلاوون سلطان مصر والشام أوامره بهدم المدينة وبنائها من جديد في السهل المنبسط تحت قلعة طرابلس، واتخذها وأصبحت عاصمة لنيابة السلطنة، وهذا ما يفسر وجود مئات المساجد والزوايا والتكايا فيها. ثم دخلت طرابلس تحت الحكم العثماني وبنوا فيها العديد من المعالم الأثرية أبرزها ساعة التل التي أهداها السلطان عبد الحميد إلى الطرابلسيين. ومن أبرز معالمها أيضا نجد، الجامع المنصوري الكبير، وجامع التوبة، وجامع العطار، والبرطاسي، والسيد عبد الواحد المكناسي، وطينال، والمدرسة القرطاوية، والشمسية، والنورية، والناصرية، والخانوتية، والسقرقية، والطواشية.

كما تشتهر طرابلس بخاناتها الجميلة. إحساس رائع يصيب الزائر عندما يدخل إلى خان الصابون أو خان الخياطين، حينها يشعر وكأن الزمن والتاريخ برمته توقف هناك، في لحظة واحدة ولم يتغير. كل شيء هنا يوحي بأننا في رحلة عكسية إلى الزمن العتيق، وكأننا في القرن السادس عشر وتحديدا في زمن الوالي العثماني أحمد شمسي باشا الذي تشير بعض المصادر التاريخية انه أمر ببناء خان الخياطين في عام 1554. يقع في سوق الخياطين، يقال انه بني على بقايا مبنى صليبي، ويتميز ببوابته المزخرفة، ويوجد فيه دهليز في طرفيه درج وقاعة واسعة، وينتهي الدهليز بباحة مستطيلة تحيط بها اثنتا عشرة غرفة، وعدد مساو من الغرف في الطابق العلوي.

ومن الخانات التي تشتهر بها المدينة أيضا خان العسكر الذي يقع وسط طرابلس وكان في البداية يستخدم كثكنة عسكرية للجيش العثماني. بني في عصر المماليك أواخر القرن الثالث عشر بهدف استعماله كثكنة للجيش. وهو من أكبر الخانات في طرابلس ويتميّز ببنائه الذي يتألف من مبنيين. إضافة إلى ذلك نجد خان المصريين وتشير المصادر التاريخية إلى انه بني في النصف الأول من القرن 14 للميلاد ويضم ساحة تتوسطه بركة ماء، خصصت السفلى منهما للبهائم والبضائع فيما خصصت العليا للنزلاء. وكان لهذه الخانات دورا يتمثل في استقبال وإيواء المسافرين المارين عبر طرابلس.

حمامات وقصور

ومن المعالم الباقية في طرابلس، الحمامات الأثرية ولكن بسبب الطوفان الذي دمر المدينة لم يبق الكثير من هذه الحمامات ومن أبرزها حمام النزهة، حمام الطوافية ، والقاضي، والعطار، والداودار، وحمام الحاجب الذي لا تزال آثاره ظاهرة على الضفة الشرقية لنهر أبو علي، حمام القلعة، حمام الجديد أو القراقيش وهو من الطراز العثماني يقع في محلّة الحدادين، بناه إبراهيم باشا العظم، حمام النوري المملوكي بناه الأمير سنجر بن عبد الله النوري، وحمام عزالدين الذي يقع في باب الحديد، بناه الأمير عزالدين أيبك الموصلّي ويعتبر من أشهر الحمامات في طرابلس، استمر في العمل حتى منتصف الثمانينيات، وأصبح مهجورا وفي حالة سيّئة. حمام العبد بني في أواخر القرن السابع عشر، وقد اعيد ترميمه وبات واجهة مهمة للسياح.

كما تضم طرابلس العديد من القصور الأثرية أهمها قصر نوفل العثماني المعروف باسم “رشيد كرامي الثقافي البلدي” بعد أن حولته بلدية المدينة إلى مكتبة عامة وقاعة محاضرات ومعارض.

زخارف أندلسية

تقول الصحافية اللبنانية لبى نوفل وهي إحدى حفيدات صاحب القصر لـ “القدس العربي”: “القصر للأسف باعه ورثة القنصل قيصر بك نوفل، بثمن بخس”. وتضيف ان “منشية طرابلس هي هبة مشروطة من قيصر بك نوفل على أن تكون منتزها لأهل المدينة وقد اشترطت الهبة أن تبقى صيانتها على عاتق المجلس البلدي ولا يتم تغيير وجه استخدامها كمثل تحويلها إلى مرآب سيارات كما تم الحديث مؤخرا، تحت طائلة تحويل جزء مهم من ملكيتها إلى ورثته. وبما أنّ هذه المساحة الشاسعة للمنشية في وسط طرابلس ثمنها ملايين الدولارات فإنّ أموالا طائلة تنتظر أحفاد صاحب القصر في حال تغيرت وجهة استخدامها كمنتزه لأهل المدينة”. وتعرب نوفل عن أملها ان تعود طرابلس منارة للعلم والعلماء والانفتاح كما كانت في عهودها السابقة.

وهناك أيضاً قصرُ الأمير المملوكي سَنْجَر الحمصي الذي سكنه عام 1324 وقصر الأمير المملوكي سيف الدين أَلْطُنْطاش من القرن 13. وقصر الأمير عز الدين أيبك الموصلي وهو من عصر المماليك، به زخارف أندلسية شبيهة بقصر الحمراء في غَرْناطة. اضافة إلى احتوائها على عشرات البِرَك وسُبُل المياه في أسواق المدينة القديمة، وتتميز بها عن غيرها من المدن ومنها بركة الملاحة التي كانت تُملأ في الأعياد بأنواع الشراب، من عصير البرتقال، أو التمر هندي، أو الليمون، أو السوس، ويشرب منها الناس مجاناً لمدة ثلاثة أيام، وأحياناً لمدة أسبوع كامل.

ولا يمكن للزائر ان يتجول في أرجاء طرابلس دون ان يتنشق الروائح الطيبة المنبثعة من محال بيع الحلويات الشرقية على أنواعها ويمكن القول ان طرابلس تحولت إلى عاصمة الحلويات في المنطقة، فلدى أبنائها وصفات سحرية تتحول إلى ألذ أصناف المأكولات والحلويات. ومن أبرز الأطباق التي تعرف بها المدينة: حلاوة الجبن، والفيصلية، وتاج الملك، والكلاج، وحلاوة الجبن، ميرامار، بقلاوة، برمة، عش البلبل، كول وشكور، بسمة، وبصمة، حلاوة الشميسة، بلورية، إضافة إلى أنواع الكنافة والفروكة. وترتبط صناعة الحلويات الطرابلسية بأسماء عديدة وعائلات توارثتها عبر الزمن منها عائلة الحلاب التي ارتبط اسمها بالحلويات الشرقية.

خطر التلوث

لم يشفع لهذه المدينة كل هذا الإرث الحضاري والتاريخي لتكون منارة المتوسط ورمز حضارته، فقد عانت طرابلس على مدى العقود الماضية من الإهمال والنسيان وبات خطر التلوث يمس مصير وحياة الآلاف من قاطني المدينة. والمفارقة ان الفيحاء التي لقبت بهذا الاسم بالنظر إلى الروائح الجميلة المنبعثة من بساتين الليمون التي كانت تنتشر في كل أرجائها، تحولت اليوم إلى شبه مكب للنفايات بكل ما يحمله هذا المخطط من عبث بهوية المدينة واسمها ورمزيتها في تعد صارخ على كل المبادئ والمواثيق البيئية العالمية.

هناء حمزة إعلامية لبنانية مغتربة وناشطة مدنية تؤكد لـ “القدس العربي” ان مجموعة من المغتربين الطرابلسيين أطلقت مبادرة من أجل محاولة وضع خريطة طريق لإنقاذ طرابلس من الوضع الراهن وتضيف بالقول: “تعاني طرابلس من أزمة نفايات بوجود مكب بات يطلق عليه اليوم جبل الزبالة. ولقد أطلقنا حملة تجميع تواقيع تطالب المسؤولين بإيجاد حل جذري لهذه القضية وجمعنا أكثر من 10 آلاف توقيع. ويزور ممثلون عن المجموعة المسؤولين السياسيين عن المدينة وذلك من أجل عرض هواجس المجموعة عليهم وخاصة فيما يتعلق بأزمة النفايات ودعوتهم للتوقيع على وعد بالسعي لإيجاد حل جذري لهذه القضية. وقالت ان الهدف اليوم هو نقل صوت طرابلس حول هذه الأزمة وإثارة القضية عالميا”.

وكيف يمكن ان تتحول طرابلس إلى قطب سياحي في ظل الوضع الراهن والتحديات التي تواجهها تجيب محدثتنا: “لا طوق نجاة لطرابلس إلا بتحويلها إلى مقصد سياحي، وهذا هو السبيل الوحيد إلى إخراج طرابلس من معاناتها الاقتصادية وحرمانها. على هذه المدينة الغنية بآثارها وحضاراتها ومطبخها الشهي ان تستثمر في رصيدها بشكل يؤمن فرص عمل جديدة لشبابها. للأسف ما يسوق عن طرابلس هو عار عن الصحة والدليل ما حصل يوم 15 يوليو/تموز الماضي، في قلب أسواقها، حيث تقاطر المئات من المغتربين من كل بقاع الدنيا إلى مدينتهم فجالوا في أسواقها وأكلوا من طيباتها وزاروا معالمها السياحية، فكانت طرابلس في يوم المغترب نموذجا لمدينة سياحية من الطراز الأول. وتضافرت جهود الجميع من أجل انجاح هذا اليوم. ومن استطاع ان يظهر الصورة الحقيقية لطرابلس ليوم واحد قادر ان يظهرها بشكل دائم”. وقالت ان “التناغم الذي حصل بين الهيئات الرسمية من محافظ وبلدية وقوة أمنية وهيئات اجتماعية واندفاع الناس هو دليل عافية ودليل على ان الطرابلسي يولي مصلحة مدينته على مصالحه الخاصة الضيقة ولديه الرغبة والاصرار على النجاح”.

نقلا عن صحيفة القدس العربي اللندنية